مسيلمة، النبيّ المخلوع (1/2)






في سجنه بنواحي باريس، كتب الناقد السينمائيّ
Robert Brasillach في كتابه "الإخوة الأعداء" مقولةً ذهبتْ مثلا: "التاريخ يكتبه المنتصرون". وقد توجد استثناءات، فتصلنا كتابات المغلوب ورؤيته للأحداث والوقائع، بيد أنّ التاريخ، وفي أغلب الحالات، قد يشكو من فجوات لا يملؤها إلاّ النصّ الذي كتبه المنتصر، فلا يتوفّر لنا من معلومات إلاّ ما تفضّل به علينا، ولا نملك من رؤية إلاّ ما وجّهنا إليه بنفسه مسبّقا. فهل نسلك درب التسليم بهذه المعلومات ولسان حالنا يقول: مكره أخوك لا بطل؟ أم نسلك درب النفي الجذريّ ونرمي بكتابات المنتصر وشهاداته، مردّدين المقولة اللاتينيّة testis unus testis nullus أي شهادة واحدة تعادل اللاشهادة؟

قد نميل إلى أضعف الإيمان، ونمسك العصا من وسطها، ونضع رواة هذه الأخبار في ميزان الجرح والتعديل لنتبيّن مدى مصداقيّتهم، وهذا المنهج هو الذي اعتمدناه في بحثنا هنا عن مسيلمة. 

تتّفق كلّ كتب التراث على السخريّة من مسيلمة والحطّ من شأنه وتقديمه لنا في صورة كاريكاتوريّة، وتفنّن المتفنّون في وضع كلام مسجوع تحت اسم "قرآن مسيلمة" أو "سجع مسيلمة" فتارة يقول: (ضفدع بنت ضفدعين، نقّى ما تنقّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين)(1) وتارة: (والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون)(2) وغير هذا كثير من السجع الكاريكاتوريّ، وقد بحثنا عن أسانيد هذه الروايات فوجدنا أنّها بلا سند حيث تُروى بصيغة " وجاء في الأثر" أو "وقال مسيلمة الكذّاب" أو "يقال" أو "وذكروا" إلاّ أربع روايات فقط، ممّا وقفنا عليه، مذكورة بالسند سنخضعها لمنهج الجرح والتعديل.

الرواية الأولى يرويها الطبري في تاريخه وهي أنّ مسيلمة قال: (سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا زال أمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربّكم فحيّاكم، ومن وحشة خلاّكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربّكم الكبّار، ربّ الغيوم والأمطار..). وقال أيضاً : (لمّا رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنّكم معشر أبرار، تصومون يوماً، وتكلفون يوماً، فسبحان الله، إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء ترقون، فلو أنّها حبّة خردلة، لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور)(3). وسند الطبري في هذا الخبر هو: (سيف عن الصعب بن عطيّة بن بلال عن أبيه وسهم بن منجاب). لم أقف على ترجمة الصعب بن عطيّة ويبدو أنّه مجهول هو وأبوه، أمّا سيف المذكور هو سيف بن عمر ويقول فيه رجال الجرح والتعديل في تهذيب التهذيب: 

(سيف بن عمر التميمي البرجمي ويقال السعدي ويقال الضبعي ويقال الأسدي الكوفيّ صاحب كتاب الردّة والفتوح.

قال ابن معين: ضعيف الحديث وقال مرّة: فليس خير منه.

وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي.

وقال أبو داود: ليس بشيء.

وقال النسائي والدارقطني: ضعيف.

وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها.

وقال ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا أنه كان يضع الحديث.

وقال البرقاني عن الدارقطني: متروك.

وقال الحاكم: اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط.

قرأت بخطّ الذهبي مات سيف زمن الرشيد) (4)

وفي كتاب تقريب التهذيب قال ابن حجر عن سيف: (ضعيف في الحديث، عمدة في التاريخ)(5) وعلّق البرزنجي في كتابه القيّم "صحيح وضعيف الطبري" قائلا: (عقّب المحرّران، الشيخ شعيب والدكتور بشّار، على قول الحافظ "ضعيف الحديث عمدة في التاريخ" بقولهما: بل متروك فحديثه ضعيف جدّا… وحتّى أخباره في التاريخ ليست بشيء فقد قال أبو حاتم الرازي: متروك يشبه حديث الواقدي..)(6).

وهذا منطقيّ فإن كان الرجل لا يتورّع عن وضع الأحاديث والكذب على النبيّ فما بالنا برواية الأخبار والتاريخ، فالسند مجروح بوجود سيف فيه، ولا لوم على الطبري في اعتماده على سيف في تاريخه حيث أنّ منهج الطبري واضح في تقديمه لكتابه قائلا: (فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحّة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنّه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنّما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنّما أدّينا ذلك على نحو ما أدّى إلينا) فالطبري أدّى الخبر كما وصله بإسناده وأخلى ذمّته فإن كان هناك استنكار أو لوم، فعلى من نقل الخبر إليه. 

والرواية الثانية عن قرآن مسيلمة والتي يذكرها الطبري هي أنّ مسيلمة قال: ( والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم/ وقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس/ وقال: إنّ بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كلّ إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن/ وقال: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون/ وقال: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّى ما تنقّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين/ وقال: والمبذّرات زرعا، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضّلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعترّ فآووه، والباغى فناوئوه)(7) وسند هذا الخبر هو: (سيف عن طلحة بن الأعلم عن عبيد بن عمير عن أثال الحنفي) وقد تقدّم الحديث عن سيف بن عمر رغم أنّه ينقل هذه الرواية عن طلحة بن الأعلم وهو صدوق من الطبقة السادسة، بيد أنّ ابن حبّان، أعلاه، أشار إلى أنّ سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الأثبات. فهذا السند، وفيه سيف، مجروح أيضا. 

والرواية الثالثة يرويها الطبري عن ابن إسحاق ونصّها أنّ مسيلمة قال: (لقد أنعم الله على الحبلي، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وَحَشَى)(8) وهذا الخبر وصلنا أيضا مذكورا في سيرة ابن هشام(9) وإسناده: (ابن إسحاق، عن شيخ من بني حنيفة) ودون أن نتعرّض إلى قول رجال الجرح والتعديل في ابن إسحاق حيث أنّ الآراء فيه متضاربة ويكاد يتساوى عدد الذين يوثّقونه مع الذين يجرّحونه، والخلاصة في ابن إسحاق هي "حسن الحديث إذا صرّح بالتحديث" وقد صرّح ابن إسحاق هنا قائلا: (حدّثني شيخ من بني حنيفة) لكن من هو هذا الشيخ؟ فهذا إسناد مظلم، كما أنّ هذه "الآيات" مذكورة في مواطن أخرى ومنسوبة لغير مسيلمة حيث أخرج ابن ضريس في فضائل القرآن: (عن أبي وائل: أنّ وفد بني أسد، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أنتم؟ فقالوا: نحن بنو الزنية(10) أحلاس الخيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم بنو رشدة. فقال الحضرمي بن عامر: والله لا نكون كابن المحولة، وهم بنو عبد الله بن غطفان، كان يقال لهم : بنو عبد العزى بن غطفان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي : هل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، فقال: اقرأه، فقرأ من عبس وتولى ما شاء الله أن يقرأ، ثم قال: وهو الذي منّ على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى بين شراسيف(11) وحشا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزد فيها فإنّها كافية)(12) إسناده حسن. فقوله (الذي منّ على الحبلى، إلى آخره..) تنسب في هذا الإسناد وغيره إلى الحضرمي، فجعلها هذا الشيخ من بني حنيفة، الذي نقل عنه ابن إسحاق، منسوبة إلى مسيلمة، ونجد هذه الرواية مرّة أخرى تنسب إلى أعرابيّ قرأها أمام عائشة ونصّها: ( عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت في سفر، فصلّت خلف أعرابيّ، فقرأ: ألم تر كيف أنعم ربّك على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى، ألا بلى، ألا بلى، فقالت عائشة: ما لكم، لا آب غازيكم ولا زالت نساؤكم في رنة)(13) إسناده مظلم. ويصف ابن إسحاق مسيلمة نقلا عن شيخ بني حنيفة "المجهول" : (وأحلّ لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة)(14) رغم أنّ "الآيات" الأخرى المنسوبة لمسيلمة والتي نقلها الطبري عن سيف بن عمر تقول: (لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنّكم معشر أبرار، تصومون يوماً، وتكلفون يوما) ويبدو أنّ ابن إسحاق نفسه غير متأكّد من هذه الأخبار إذ يقول بعد أن ذكرها: (فالله أعلم أيّ ذلك كان) 

والرواية الرابعة يرويها ابن عساكر في تاريخ دمشق، وهذا نصّها: (أنّ قرّة بن هبيرة العامري قدم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأسلم فلمّا كان حجّة الوداع نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو على ناقة قصيرة فقال يا قرّة، فقال الناس يا قرّة، فأتى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: كيف قلت حين أتيتني؟ قال: قلت يا رسول إنّه كان لنا أرباب وربّات من دون الله ندعوهم فلا يجيبونا ونسألهم فلا يعطونا، فلمّا بعثك الله أجبناك وتركناهم. فلمّا أدبر قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أفلح من رزق لبّا، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمرو بن العاص إلى البحرين فتوفّي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعمرو ثَمّ.

قال عمرو: فأقبلت حتى مررت على مسيلمة فأعطاني الأمان ثمّ قال: إنّ محمّدا أرسل في جسيم الأمور وأرسلت في المحقرات، وقلت: أعرض عليّ ما تقول، فقال: يا ضفدع نقّي فإنّك نعم ما تنقّين، لا زادا تنقرين ولا ماء تكدّرين، ثمّ قال: يا وبر يا وبر إنّما أنت إبراد وصدر، وسائرك حفر نقر، ثمّ أتى بأناس يختصمون إليه في نخلات قطعها بعضهم لبعض فتسجى قطيفة ثم كشف رأسه ثمّ قال: والليل الأدهم والذئب الأصحم ما جاء ابن أبي مسلم من محرم، ثم تسجّى الثانية فقال: والليل الدامس والذئب الهامس ما حرمته رطبا إلا كحرمته يابس، قوموا فلا أرى عليكم في ما صنعتم بأسا، قال عمرو أما والله إنّك لكاذب وإنّا لنعلم أنّك لمن الكاذبين، فتوعّدني)(15) وسند هذا الخبر هو: (أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي أنا أبو الحسين بن النقور أنا عيسى بن علي أنا عبد الله بن محمد حدثني إبراهيم بن هانئ أنا عبد الله بن صالح ويحيى بن بكير، واللفظ ليحيى، أنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن نشيط) وهذه رواية ضعيفة وموضوعة وذلك من ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: وجود "سعيد بن نشيط" في السند، وقال فيه ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل: مجهول.(16) وقال البخاري في كتاب الضعفاء: لا يصحّ (17) وقال ابن حجر في لسان الميزان: لا يُعرف، مجهول، ذكره ابن حبّان في ذيل الضعفاء.(18)

الوجه الثاني: أنّي تتبّعتُ المتن فرأيت أنّ أصل الخبر هو عن لقاء قرّة بالنبيّ ولا ذكر فيه لاستطراد الراوي فيما بعد عن مسيلمة وقرآنه، فأصل الرواية هو الخبر الأوّل فقط وقد ذكره البخاري، وغيره، في التاريخ الكبير معلّقا(19) بسند آخر، وهو عن يزيد بن جابر أخبره شيخ بالساحل عن قرّة بن هبيرة، ولا ذكر فيه لمسيلمة، وإنّما تمّ دمج الخبرين بسند واحد فيما بعد، ورغم أنّ الرواية ضعيفة ويمكن تجاوزها فإنّي أردت معرفة متى وقع التحريف فيها وإلصاقها بخبر مسيلمة مع عمرو بن العاص، فوجدت، ممّا وقفتُ عليه، أنّ الخرائطي ذكره في مساوئ الأخلاق(20) بسند ابن عساكر، ودليلي على وقوع خلط في الرواية هو أنّ ابن قانع في معجم الصحابة، وبالسند نفسه تقريبا، لا يذكر مسيلمة(21) وكذلك البيهقي في شعب الإيمان(22) وألخّص المسألة للقارئ:

سند ابن عساكر: عبد الله بن صالح =الليث بن سعد= خالد بن يزيد= سعيد بن أبي هلال=سعيد بن نشيط (وفيه مسيلمة)

سند الخرائطي: عبد الله بن صالح =الليث بن سعد= خالد بن يزيد= سعيد بن أبي هلال=سعيد بن نشيط (وفيه مسيلمة، والسند نفسه)

سند ابن قانع: ابن بكير =الليث بن سعد= خالد بن يزيد= سعيد بن أبي هلال=سعيد بن نشيط

(لا يوجد فيه مسيلمة)

سند البيهقي: ابن وهب =الليث بن سعد= خالد بن يزيد= سعيد بن أبي هلال=سعيد بن نشيط

(لا يوجد فيه مسيلمة)

ومن هنا نلاحظ أنّ قصّة مسيلمة دخلت في السند عند "عبد الله بن صالح" وهو الذي خلط القصّتين الضعيفتين بإسناد واحد، بينما القصّة من طريق غيره تقتصر فقط على لقاء قرّة بن هبيرة بالنبيّ ولا تزيد، وكالعادة نذهب إلى رجال الجرح والتعديل لنعرف من هو عبد الله بن صالح، وهناك من وثّقه وهناك من طعن فيه، وحتّى لا أطيل فإنّي سأقتصر على كلام ابن عديّ وأعتبره تلخيصا حيث قال: (هو عندي مستقيم الحديث إلاّ أنّه يقع في حديثه في أسانيده ومتونه غلط، ولا يتعمّد الكذب)(23) وكلام ابن حجر: (صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة)(24)

الوجه الثالث: متن هذه الرواية يحتوي على خبرين، فالأوّل هو إسلام قرّة بن هبيرة وحديثه مع النبيّ ثمّ ينتقل الراوي فجأة للحديث عن عمرو بن العاص وذهابه إلى البحرين ثمّ لقائه بمسيلمة أثناء العودة وتنتهي الرواية بأن يقول عمرو بن العاص لمسيلمة بعد سماع قرآنه: أنت كذّاب، فيتوعّده مسيلمة. فمتن القصّتين يحتوي على خلط بين الشخصيّات، حيث أنّ قرّة بن هبيرة كان قد ارتدّ بعد إسلامه فمرّ به عمرو بن العاص فتوعّده، فصارت القصّة تتحدّث عن توعّد مسيلمة لعمرو. وكي ألخّص القصّة الأصليّة للقارئ فإنّي لا أجد أحسن من تلخيص الفيلسوف ابن رشد الذي قال: (قال مالك: بلغني أنّ رجلا قال لعمرو بن العاص، وكان عمرو عاملا على البحرين في زمان النبيّ عليه السلام، إنّ النبيّ قد توفّي فالحقْ ببلدك، وإلاّ فعلنا وفعلنا، يتواعده، فقال له عمرو بن العاص: لو كنت في حفش أمّك لدخلنا عليك فيه.

قال محمّد بن رشد: القائل لعمرو [هو] قرّة بن هبيرة بن سلمة، كان ارتدّ وأتي به موثقا إلى أبي بكر مع عيينة)(25) فأصل القصّة هو أنّ قرّة(26) توعّد عمرو فأدخل الراوي مسيلمة في المشهد وصار هو الذي يتوعّده، وعلى كلّ حال فالرواية ضعيفة وموضوعة كما أشرنا منذ البداية.

ولقاء عمرو بن العاص بمسيلمة تذكره الأخبار أنّه كان قبل إسلامه، ويقول ابن كثير: (وذكروا أن وفد عمرو بن العاص على مسيلمة، وكان صديقا له في الجاهليّة، وكان عمرو لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو، ماذا أنزل على صاحبك-يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- في هذه المدّة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة، فقال وما هي؟ فقال: والعصر إنّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر، ففكّر مسيلمة ساعة ثمّ قال: وقد أنزل عليّ مثله. فقال وما هو؟ فقال: يا وبر إنّما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر، كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنّك لتعلم أنّي أعلم أنّك لتكذب)(27) وهذا الخبر لا سند له، ويعلّق جواد علي: (إنّ ما نسب إلى مسيلمة من آيات، وضع على وزن آيات القرآن ومحاكاة لها، وليس في "يا وبر يا وبر إلخ" أيّ شيء يضاهي : "والعصر" في النسق أو في المعنى، وعندي أنّ الخبر من الأخبار الموضوعة. وقد يكون عمرو بن العاص قد زار اليمامة، فهذا شيء غير مستبعد، فقد كان تاجرا وكان تجّار مكّة يسافرون إلى اليمامة وإلى غيرها للاتّجار، أمّا أنّه ذهب خاصّة لزيارة مسيلمة ومكالمته على نحو ما يرد في الخبر، فأسلوب يدلّ على وجود الصنعة فيه أكثر ممّا يدلّ على الصحّة وصدق الرواية)(28) 

هذه هي الروايات المسنودة التي وقفنا عليها وتذكر بعض آيات من قرآن مسيلمة، وهي روايات ضعيفة مثلما أثبتنا ذلك، وبمنهج علم الرجال نفسه، أمّا بقيّة الروايات الأخرى في كتب التراث فإنّها بلا سند وتكرّر غالبا الأساجيع التي ذكرناها، وتأخذها بتسليم وبلا أدنى تحقيق، وهدفها السخريّة من مسيلمة والحطّ من شأنه.

وقبل أن ننهي هذا الفصل فقد بقيت مسألة واحدة وهي وجود خبر منسوب لأبي بكر الصدّيق، ذكره ابن سلام في غريب الحديث، وهذا نصّه: (لمّا قدم وفد اليمامة بعد مقتل مسيلمة قال لهم [أي أبو بكر]: ما كان صاحبكم يقول؟ فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولنّ، فقالوا: كان يقول: يا ضفدع نقّي كما تنقّين، لا الشراب تمنعين، ولا الماء تكدّرين، في كلام من هذا كثير، فقال أبو بكر: ويحكم، إنّ هذا الكلام لم يخرج من إل ولا بر، فأين ذهب بكم؟)(29) وهذا الخبر مهمّ بعكس الأخبار السابقة حيث أنّ الكلام منسوب لأبي بكر وهو رجل معاصر لمسيلمة.

وسند أبي عبيدة هو: (ويُروى عن ابن إسحاق)(30) هكذا معلّقا، ويبدو أنّ الراوي نقلها من كتاب الردّة لابن إسحاق، وهو كتاب مفقود، بيد أنّه ولحسن الحظّ وصلنا كتاب الردّة لمعاصره الواقدي، والواقدي مختصّ في إيراد التفاصيل وتفاصيل التفاصيل ولم يترك خبرا في المغازي، مهما كان، إلاّ وذكره، وإذ يروي خبر مجيء بني حنيفة إلى أبي بكر مع خالد بن الوليد فإنّه لا يتعرّض إلى هذه الرواية عن أبي بكر(31)، ولو كان يعرفها لذكرها، بل وليس من الثابت أنّ ابن إسحاق نفسه قد رواها، فالخبر معلّق وقد يكون موضوعا، وهذا الخبر غير موجود في كتاب المروزي "مسند أبي بكر الصدّيق" والذي جمع فيه كلّ أحاديثه(32) بغثّها وغثيثها، وقد يكون بعض الخبر صحيحا أي قول أبي بكر: "هذا كلام لم يخرج من إل" بمعنى لم يخرج من إله، فهذا ممكن، ولا أظنّ أنّ أبا بكر سيعتبر قرآن مسيلمة وحيا، لكن ما أراه موضوعا هو "الآيات" التي تتحدّث عن الضفدع، والتي دُسّت في الخبر.

والواقدي في كتاب الردّة يورد لنا "آيات" قالها مسيلمة أثناء لقائه بسجاح، وهي التالية: (لا أقسم بهذا البلدْ، ولا تبرح هذا البلدْ، حتّى تكون ذا مال وولدْ، ووفر وصفدْ، وخيل وعددْ، إلى آخر الأبدْ، رغم من حسدْ)(33) ويورد أبياتا على الرجز قالها مسيلمة أثناء لقائه بخالد بن الوليد في معركة اليمامة، وهي التالية: (أنا رسول وارتضاني الخالقُ/ القابض الباسط ذاك الرازقُ/ يا ابن الوليد أنت عندي فاسقُ/ وكافر بربّه منافقُ)(34) وإن كنّا نرجّح أنّ هذا الكلام موضوع أيضا إلاّ أنّه أحسن على الأقلّ ممّا نسب إليه فيما بعد، فكلّما تقادم الزمن تفنّن الرواة في وضع آيات كاريكاتوريّة ليصبح مسيلمة يتحدّث عن الضفادع أو عن الأفيال في قوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلقوم طويل، إلخ…وغير ذلك، وربّما بدأت هذه "الآيات" المضحكة تنتشر في القرن الثاني الهجري حيث ذكر النديم في الفهرست أنّ هشام الكلبي (توفّي 204 هـ) كتب كتابا بعنوان "كتاب مسيلمة الكذّاب (وسجاح) " (35)

ونختم هذا الفصل بقول جواد علي متحدّثا عن مسيلمة: (فالعادة أنّ من يفشل ويهلك، لا سيّما إذا كان قد نال حظّا من المكانة والجاه والاسم، يُحمل عليه كثيرا، ولا يتورّع حتّى أصحابه ومن كان يؤمن به من الدسّ عليه)(36)

انتهى الجزء الأوّل من هذا المبحث، ويليه الجزء الثاني وفيه تعريف بمسيلمة ودعوته وعلاقته بالنبيّ محمّد وحربه مع أبي بكر وبقاء دعوته من بعده. 

الهوامش:

1- الباقلاني، إعجاز القرآن، تحقيق السيّد أحمد صقر، دار المعارف، ط3، القاهرة، ص157

2- المصدر السابق.

3- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط2، 1969، القاهرة، ج3، ص272

4- ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، دار الفكر، بيروت، 1984، ج4، ص 259-260

5- صحيح وضعيف تاريخ الطبري، تحقيق وتخريج وتعليق: محمّد بن طاهر البرزخي، إشراف ومراجعة: محمّد صبحي حسن الحلاّق، دار ابن كثير، دمشق-بيروت، 2007، ج1، ص15

6- المصدر السابق.

7- تاريخ الطبري، مصدر سابق، ص 283-284

8- المصدر السابق، ص138

9- سيرة ابن هشام، تحقيق مصطفى السقّا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط2، 2004، ص852

10- والزنية بالفتح والكسر آخر ولد الرجل والمرأة كالعجزة وبنو مالك يسمون بني الزنية والزنية لذلك وإنّما قال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بل أنتم بنو الرشدة نفيا لهم عما يوهمه لفظ الزنية من الزنا (لسان العرب، مادة زنا)

11- الشرسوف غضروف معلّق بكلّ ضلع مثل غضروف الكتف (لسان العرب، مادة شرسف)

12- ابن الضريس، فضائل القرآن، تحقيق: عروة بدير، دار الفكر، دمشق، 1987، ص31

وقد جاء ذكر هذا الحديث مختصرا، بلا قرآن مسيلمة، بسند آخر، عند ابن سعد في الطبقات (1/292)، وعند ابن الأثير في أسد الغابة (1/270) وجاء في الإصابة (2/96) بمختلف الأسانيد وأحدها من طريق منجاب بن الحارث أنّ السورة التي تلاها الحضرمي هي سبّح باسم ربّك الأعلى، وليس عبس وتولّى. وذكره السيوطي في الدرّ المنثور (15/240) بالسند نفسه مع اختلاف في اللفظ، وبسند آخر عن ابن النجّار عن أنس.

13- أبو بكر الدينوري، المجالسة وجواهر العلم، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن حزم، بيروت، 1998، ج7، ص187

14- سيرة ابن هشام، مصدر سابق.

15- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: عمر بن غرامة العموري، دار الفكر، بيروت، 1997، ج46، ص153-154

16- الرازي، كتاب الجرح والتعديل، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1953، ج4، ص69

17- البخاري، كتاب الضعفاء الصغير، تحقيق محمّد إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، 1986، ص54

18- ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، تحقيق عبد الفتّاح أبو غدّة، دار البشائر الإسلاميّة، بيروت، 2002، ج4، ص79

19- البخاري، التاريخ الكبير، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف، 1361 هجري، ج4، ص182

20- الخرائطي، مساوئ الأخلاق ومذمومها، تحقيق مصطفى بن أبو النصر الشلبي، مكتبة السوادي للتوزيع، جدّة، 1992، ص85

ويقول المحقّق في الهامش: إسناده ضعيف، في سنده عبد الله بن صالح، صدوق كثير الغلط، وسعيد بن نشيط…فهو مجهول.

21- ابن قانع، معجم الصحّابة، تحقيق: صلاح المصراتي، مكتبة الغرباء الأثريّة، المدينة المنوّرة، 1418 هجري، ج2، ص357

22- البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، تحقيق مختار أحمد الندوي، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض، 2003، ج6، ص364

23- ابن حجر ، تهذيب التهذيب، مصدر سابق، ج5، ص228

24- ابن حجر، تقريب التهذيب، تحقيق أبو الأشبال الباكستاني، دار العاصمة للنشر والتوزيع، 1416هجري، ص515

25- ابن رشد، البيان والتحصيل، تحقيق محمّد حجّي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1988، ج16، ص371

26- قرّة هو جدّ الشاعر الصمّة القشيري (العصر الأموي) الذي يقول :

وأذكر أيّام الحمى ثمّ أنثني***على كبدي من خشية أن تصدّعا

كأنّا خلقنا للنوى وكأنّما*** حرام على الأيّام أن نتجمّعا

وهي من عيون الشعر، وغنّتها السيّدة فيروز.

27- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: نخبة من الأساتذة، مؤسّسة قرطبة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2000، ج7، ص345

28- جواد علي، المفصّل، بمساعدة جامعة بغداد، ط2، 1993، ج7، ص 295-296

29- ابن سلام، غريب الحديث، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط2، 2003، ج2، ص14-15

وذكره ابن حبيش في كتاب الغزوات بسند (عن زيد بن أسلم عن أبيه) انظرْ كتاب الغزوات لابن حبيش، تحقيق أحمد عنيم، 1983، ص157

30- المصدر السابق، ج1، ص68

31- الواقدي، كتاب الردّة مع نبذة من فتوح العراق….، تحقيق يحيى الجبوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990، ص142-144

32- المروزي، مسند أبي بكر الصدّيق، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399 هجري

وهي 142 حديثا، وهذا يتّفق مع ما أورده ابن حزم عن عدد ما رُوي عن أبي بكر، انظرْ:

ابن حزم، أسماء الصحابة وما لكلّ واحد منهم من العدد، تحقيق مسعد عبد الحميد السعدني، مكتبة القرآن للنشر، القاهرة، ص35

33- الواقدي، كتاب الردّة، مصدر سابق، ص 111

34- المصدر السابق، ص 129

35- كتاب الفهرست للنديم، تحقيق رضا تجدّد، طهران، 1971، ص110 (اسم المؤلّف الصحيح هو "النديم" =محمّد بن أبي يعقوب إسحاق النديم، وليس "ابن النديم" كما هو شائع)


36- جواد علي، المفصّل، مرجع سابق، ج6، ص95